النموذج السوري الجديد- تحديات الداخل والخارج ومستقبل سوريا

المؤلف: عمر كوش09.23.2025
النموذج السوري الجديد- تحديات الداخل والخارج ومستقبل سوريا

إن سقوط نظام الأسد، والانهيار المذهل لجيشه أمام التقدم الحاسم لفصائل المعارضة السورية، التي بلغت مشارف العاصمة دمشق في الثامن من ديسمبر/ كانون الأول 2024، يمثل منعطفًا محوريًا في تاريخ سوريا على الصعيدين؛ الداخلي والخارجي. وقد أطلق هذا الحدث العظيم موجات عارمة من الفرح والاحتفالات الغامرة لدى الشعب السوري، الذي قدم تضحيات جسيمة وبطولات عظيمة من أجل التحرر من براثن نظام الأسد المستبد.

النموذج السوري

بكل تأكيد، يُمكن الإقرار بأن تمكّن فصائل المعارضة السورية، وعلى رأسها "هيئة تحرير الشام"، من الوصول إلى مراكز صنع القرار ومفاصل الحكم في سوريا، قد أرسى نموذجًا فريدًا وجديدًا في مسيرة التغيير، وهو نموذج حمل معه عودة قوية للإسلاميين إلى صدارة المشهد السياسي، وذلك عبر تبني العمل المسلح كأداة حاسمة لتحقيق مشروعهم الذي يرفع لواء الثورة السورية. ويتميز هذا النموذج بالابتعاد عن نمط العمل السياسي الذي تبنته بعض التنظيمات الإسلامية المعتدلة في دول، مثل المغرب، ومصر، وتونس، وكذلك عن المسار العنيف الذي سلكته تنظيمات إسلامية أخرى رفعت راية الجهادية العالمية.

علاوة على ذلك، قدم النموذج السوري خطابًا تصالحيًا مميزًا مع دول الجوار ومع دول الغرب والمجتمع الدولي، وهو الأمر الذي يفسر التدفق الكبير لوفود الدول الغربية والعربية إلى العاصمة دمشق، متجاوزة بذلك التصنيفات التي وضعت هيئة تحرير الشام في قائمة المنظمات الإرهابية.

التحديات

لا شك أن النموذج السوري الوليد يواجه جملة من التحديات الجمة، والتي ستختبر بعمق مدى قدرته الفائقة على إعادة بناء الدولة السورية على أسس ومبادئ جديدة، تنأى بنفسها عن تلك النماذج التي قدمتها حركات الإسلام السياسي بمختلف أطيافها واتجاهاتها، والتي انتهى مسار معظمها إلى الفشل الذريع في تحقيق الأمن والاستقرار المنشودين، حيث عجزت تلك الحركات عن بناء نموذج راسخ لدولة وطنية مستدامة، بل أخفقت في تشكيل حاضنة شعبية واسعة وقوية تدعمها وتساندها.

وبالتالي، فإن الامتحان الحقيقي الذي يواجهه النظام الجديد في سوريا ليس مجرد ترجمة الأقوال إلى أفعال، كما يشدد المسؤولون الغربيون، بل في تحقيق قطيعة جذرية على المستويين السياسي والإبستمولوجي في العلاقة المعقدة بين السياسة والإسلام.

تحديات الداخل السوري

تبرز على الساحة الداخلية تحديات جمة واستحقاقات متراكمة، حيث يتطلع السوريون بعين الأمل إلى أن يقدم النظام الجديد ما يحقق وعود الثورة السورية المجيدة، التي انطلقت في منتصف مارس/ آذار 2011، والمتمثلة في بناء سوريا الجديدة على أسس راسخة من التعددية الحقيقية والمواطنة المتساوية الكاملة وسيادة القانون العادل.

إلا أن المخاوف لا تزال تراودهم بين الفينة والأخرى، بسبب الماضي المثير للجدل للفصائل المتشددة، التي تولت قيادة المرحلة الانتقالية في البلاد، الأمر الذي أثار هواجس لدى شرائح واسعة من السوريين من احتمال انفرادها بالسلطة والعودة بهم إلى حقبة مظلمة، إلا أن ذلك لم يثنهم عن التطلع إلى أن لا يغفل النظام الجديد حجم التضحيات الجسام والمعاناة المريرة التي تكبدوها.

وأن يدرك حجم التحديات الداخلية التي تواجهه، وأن يتحلى بالحكمة والتعقل في هذه المرحلة الانتقالية الحساسة، التي تتطلب اتخاذ خطوات مدروسة ومتقنة بدقة من أجل الوصول إلى غدٍ مشرق وأفضل لجميع السوريين، وذلك عبر إشراك مختلف أطياف المجتمع السوري في صياغة مستقبلهم الزاهر، واتخاذ إجراءات فعالة باتجاه إعادة بناء مؤسسات الدولة على أسس متينة من الحكم الرشيد، وبما يقطع بصورة نهائية مع نهج الاستبعاد والإقصاء والتهميش الذي ساد خلال حقبة النظام الاستبدادي البائد.

إذًا، يواجه النموذج السوري تحديًا مصيريًا يتمثل في اختبار قدرة النظام الجديد على احتواء وإدارة التنوع الثقافي والاجتماعي والتعددية التي يتميز بها المجتمع السوري، سواء على المستوى الديني المتنوع، أم الإثني المتعدد، حيث يتطلب هذا الواقع المجتمعي الفريد إدارة حكيمة ومتوازنة، والابتعاد التام عن ممارسات الإقصاء أو التهميش، وتحقيق العدالة والمساواة لجميع مكونات المجتمع، مع ترسيخ احترام التعددية كقيمة أساسية في بناء الدولة السورية الحديثة.

يعلق السوريون آمالاً كبيرة على الإشارات الإيجابية التي صدرت من النظام الجديد، والتي تجسدت في التعامل المنفتح مع كافة أطياف المجتمع وإقراره الكامل بالحق في ممارسة كافة الشعائر والطقوس الدينية بحرية تامة، وعدم التدخل مطلقًا في الحريات الشخصية، سواء في المظهر العام أم في اللباس.

والأهم من ذلك أنها لم تلجأ إطلاقًا إلى ممارسات الثأر والانتقام، بل بادرت إلى إنشاء مراكز تسوية شاملة لكافة أفراد جيش النظام وأجهزة أمنه، كما أطلقت حملة أمنية واسعة النطاق ضد فلول النظام السابق، بالتزامن مع توجهها الحثيث إلى الاستعانة بالوجهاء والأعيان في المناطق التي تحصنوا فيها.

وقد تعامل النظام الجديد بحزم شديد مع محاولات الفلول اليائسة لزعزعة الأمن، والاعتداء على عناصر أمن الهيئة، وترافق هذا الحزم مع قدر كبير من الحكمة والتبصر، حيث لم تعتبر الأحياء والمناطق، التي اختبأ فيها المتهمون بارتكاب جرائم، بيئة معادية، بل توجهت مباشرة إلى ممثلي المجتمعات الأهلية في تلك المناطق والأحياء، الذين أبدوا تجاوبهم الكامل معها، ورفضوا بشدة كل المحاولات الرامية إلى إثارة النعرات الطائفية البغيضة.

كما قام النظام الجديد بتشكيل لجنة تحضيرية عليا من أجل عقد مؤتمر وطني شامل يضم كافة مكونات المجتمع السوري، والذي سيتم خلاله الإعلان الرسمي عن حلّ هيئة تحرير الشام والفصائل المسلحة الأخرى التي ستنضم إلى مؤسسة الجيش، وسيتم فيه تشكيل حكومة كفاءات وطنية، وحل البرلمان الحالي، وإيقاف العمل بدستور 2012، كما ستشكَّل لجان قانونية وحقوقية متخصصة من أجل كتابة دستور جديد عصري، تمهيدًا لإجراء انتخابات تشريعية ورئاسية حرة ونزيهة.

يدرك النظام الجديد تمام الإدراك حجم التحديات الجاثمة على كاهله على المستوى الداخلي، وعلى رأسها التحدي الأمني، حيث سعى بكل جد وإخلاص منذ الأيام الأولى لتوليه السلطة إلى سحب السلاح غير الشرعي، وحصره بشكل كامل بيد الدولة عبر مؤسسة الجيش الوطني الذي بدأ بإعادة تشكيله وتنظيمه.

إضافة إلى تحدي تأمين الاحتياجات الأساسية الضرورية للسوريين، الذين يعانون من التركة الثقيلة التي خلفها النظام السابق، وأكثر من 90% منهم يعيشون تحت خط الفقر المدقع، وهم بحاجة ماسَّة إلى مساعدات إنسانية عاجلة وفورية، فضلًا عن التحدي الاقتصادي والتنموي، حيث تحتاج سوريا إلى أكثر من 500 مليار دولار أمريكي من أجل إعادة إعمار ما دمره نظام الأسد المجرم، ما يعني أنها بحاجة ملحة إلى تدفق الاستثمارات العربية والدولية الضخمة من أجل تحقيق ذلك.

هذا يتطلب بالضرورة رفع العقوبات الاقتصادية الظالمة التي فرضتها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، والتي لم يعد لها أي مبرر على الإطلاق بالنظر إلى أنها كانت مفروضة على نظام الأسد البائد بسبب سلوكه الوحشي والدموي تجاه الشعب السوري.

ويبدو أن الإدارة الأميركية قد بادرت بالفعل إلى التخفيف من وطأة العقوبات الاقتصادية المفروضة على سوريا، بما يسمح بتحسين مستوى الخدمات الضرورية الأساسية كالطاقة والكهرباء والمياه، وذلك دعمًا للخطوات السياسية الإيجابية التي يتخذها النظام الجديد في المرحلة الانتقالية.

التحديات الخارجية

لا تقتصر التحديات الجسيمة التي تواجه النظام الجديد على الداخل السوري فحسب، بل تمتد لتشمل المستوى الخارجي، الذي يعج بالتحديات الكبيرة، حيث رحبت دول عديدة بهذا التغيير التاريخي، وأبدت استعدادها الكامل للمساعدة في تسهيل عملية الانتقال السياسي السلس والتعافي الاقتصادي الشامل وإعادة الإعمار الشاملة، فيما لم تخفِ دول أخرى في الإقليم معارضتها الشديدة ورفضها القاطع لهذا النموذج الجديد.

فقد سارعت دول عديدة إلى إرسال وفود رفيعة المستوى إلى العاصمة دمشق، وتجاوزت بذلك تصنيف هيئة تحرير الشام كمنظمة إرهابية، بالاستناد إلى الإشارات الإيجابية الملموسة التي قامت بها الإدارة الجديدة بعد سقوط النظام.

في المقابل، أدرك النظام الجديد الأهمية القصوى لعلاقاته الدولية والعربية، فأرسل رسائل طمأنة عديدة إلى دول الجوار والعالم؛ مفادها أن سوريا لن تكون أبدًا عاملًا لعدم الاستقرار في المنطقة، بل ستتبع سياسة "صفر مشاكل" معها، وأنها ليست بصدد تصدير الثورة إلى الخارج، والتي انتهت بالفعل بسقوط النظام الديكتاتوري.

كما أدرك النظام الجديد أهمية عودة سوريا إلى مكانها الطبيعي في المنظومة العربية، فأرسل وفدًا رفيع المستوى إلى كل من المملكة العربية السعودية الشقيقة، ودولة قطر العزيزة، ودولة الإمارات العربية المتحدة، والأردن.

بدورها، أدركت هذه الدول العربية الأصيلة الأهمية الاستراتيجية لسوريا، وضرورة دعمها القوي للتعافي وإعادة إعمار ما خربه نظام الأسد، وعدم تركها فريسة للأطماع مثلما حدث مع العراق بعد الغزو الأميركي الغاشم.

على الصعيد الدولي، نظرت الولايات المتحدة بعين الرضا للتغيير الحاصل في سوريا، واعتبرت النظام الجديد كسلطة أمر واقع لا يمكن تجاهلها، وأرسلت وفدًا رسميًا إلى دمشق، وكذلك فعلت كل من فرنسا وألمانيا، وأبدت دول الغرب استعدادها للتعاون المشروط مع الإدارة الجديدة، حيث صرح مسؤولون غربيون رفيعو المستوى بأنهم يراقبون عن كثب الأفعال التي ستقوم بها، وأرسلت الولايات المتحدة رسالة حسن نيّة واضحة تمثلت في رفع جزئي ومؤقت للعقوبات الاقتصادية المفروضة على سوريا، في انتظار رفعها الكامل للعقوبات عن الدولة السورية وقطاعاتها الحيوية.

هناك مؤشرات عديدة وقوية على رغبة النظام الجديد في تأسيس علاقات دولية جديدة متينة، أساسها الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة، ويأمل في أن يساهم المجتمع الدولي الفاعل في مساعدتها في إعادة الأمن والاستقرار إلى سوريا المدمرة، التي يعاني غالبية سكانها من وطأة الفقر المدقع والتهميش والإقصاء وتبعات النزوح واللجوء.

ولعل التحديات التي تواجهها جمَّة ومتنوعة، وتتطلب إيجاد آلية فعالة لتشكيل هوية سياسية جامعة، وجعل نموذج التغيير ينحو نحو تأسيس دولة تعاقدية مدنية ديمقراطية ذات طابع إسلامي منفتح ومعتدل، ولا شك على الإطلاق في أن الطريق ليس مفروشًا بالورود أمام الإدارة الجديدة، التي ستواجه العديد من التحديات والاستحقاقات الصعبة والمعقدة.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة